مرحبا بكم

الدعاء: مسارات الاستجابة والارتقاء



الدعاء: مسارات الاستجابة والارتقاء 
                              ذ. نورالدين مشاط


هي سورة مريم.. خذها يا صاح.. خذها بقوة مثلما هو الحال ببقية الكتاب.. وأْنَس بها فهي منارة للفضل وكشاف لشروط استجابة الدعاء. فزكريا عليه وعلى نبينا السلام رفع يده إلى الله: مالك الخزائن كلها.. وكان المظهر البادي والخفي: مظهر افتقار كلي لله. حيث كان النداء خفيا .. وكانت العبارات منكسرة تعبر عن قمة الاحتياج أمام صاحب العطاء : (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) ... والافتقار مقام من مقامات المعراج إلى الله وهو ديدن الرسل عليهم السلام. ألم تر إلى موسى عليه السلام كيف تولى إلى الظل بعدما سقى لابنتي شعيب عليه السلام وكيف تذلل ولامست كلمات فقره عنان السماء: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) سورة القصص (24).
 ولم يتوقف شيخنا الوقور، نبي الله زكريا، عن إبراز قمة افتقاره ببسط صورة اشتعال الرأس شيبا وضعف العظم ووهنه استدرارا لرحمة الله، وإنما مر إلى مقام آخر ألا وهو مقام اليقين والثقة المطلقة في الإجابة: (ولم أكن بدعائك رب شقيا)، وكأن لسان حاله يقول: "يا رب، أنا كلما دعوتك استجبت لي ولم تردني خائبا". فكيف لكريم هو الحنان المنان صاحب العطاء والجود الرحمن الرحيم أن يرد عبدا وقف منكسرا ببابه وتعلل بشيبته ووهنه وأبرز الثقة في عطاء ربه؟!  واستمر الدعاء يرسم مسارات القرب والرضا ويطرق الباب بشدة: ياسيدي، هذا هدفي الخالص الزكي (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا). هدف رباني نبيل فهو أن يرزقه الله إبنا وليا من أولياء الله عابدا نبيا ليرث تركة آل يعقوب: النبوة. ولما كان زكريا من المسبحين الذاكرين .. وهو ما نستنتجه جليا من وصيته لقومه بعدما بشره الله بولد سماه ربه يحيى. سماه يحيى لأنه أحيا الرحم من موات ليهب لعبده زكريا الخلف. قلت كانت وصيته لقومه (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا). إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه، والذي لم يشغف بعمل ما ويتذوق حلاوته لا يمكن أن يأمر به. والتسبيح ديدن الموصولين بالله وبه يصعدون مراقي القرب والرضا لدى المولى عز وجل.. كما يصبح صوتهم مألوفا لدى الملأ الأعلى: الملائكة، حيث تحبهم وتدعو الله لهم. فأي أنس مثل هذا. ألم تسمع يا صاح قوله تعالى في سورة الأنبياء عن يونس عليه السلام لما التقمه الحوت: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) فذلك سبق استدر حفظا. وأخيرا فقد كان زكريا وزوجته الفاضلة عليها رضوان الله من المسارعين إلى الخيرات : ( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)) . تلك مسارات الارتقاء والدعاء..مسار ذكر وتسبيح يرتقي بالنفس ويزكيها لترتبط بمصدر النور في السماوات والارض (الله نور السماوات والارض) سورة النور.. ومسار خيرية دفاقة ينابيعا وأنهارا..وصاحب العطاء إذا أحب عبادا جعلهم من أهل العطاء الذين يخففون آلام الناس..فأحبهم لجودهم.. فأجزل لهم العطاء. فالعجب كل العجب.. أن يعطيك ما تعطي.. ويجزل لك العطاء على ما تعطي!! فالبدار البدار!!
فهي خمسة إذن لا تفوتنك أخي: 1 ـ تسبيح يستدر الرضا، وعطاء يستحيي منه صاحب المن والفضل، وافتقار وانكسار يمنح العطف والرحمة من الرحمن. 4 ـ ويقين تام في الإجابة ممن يملك القدرة المطلقة على إخراج الأشياء من عالم العدم إلى عالم الكينونة والذكر يرسم مسار الثقة فيجلب العطاء، وأخيرا إخلاص الهدف وتنقيته من الشوائب ليكون ربانيا..فمتى كان كذلك..صار الهدف بعد ذكر عينا.

الفقير إلى عفو الله: نورالدين مشاط
مقتطف من كتاب قادم بحول الله: (نور القرآن: مسارات تكبير الله وتزكية الأنفس)   

نــــور القـــرآن(1): قبـــل البـــدء

نــــور القـــرآن(1): قبـــل البـــدء 

               ذ. نورالدين مشاط
 
القرآن.. عجب
عجب.. تشرئب له الأعناق وتنحني له الأفهام..!
هكذا عبرت الجن عن الإنقلاب النفسي الرهيب الذي أحدثه القرآن في كيانها عند سماعه..!
(إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد  فآمنا به.. (1 ـ 2))[1].
عجب .. ببساطة وعمق، وبكل ما يمكن لهذه الأحرف الثلاثة أن تحمل من معنى يشد الأفق ويتدفق وديانا من نور تملأ الكون ضياء ووهجا وتهدي إلى الرشد والقوامة..!
عجب.. هكذا .. وإذ نتمتم بهذه الكلمة فنحن لا نقول شعرا في هذا القرآن كتعبير عن حب .. ولكننا نقول حقيقة ينطق بها كل حرف من حروفه..حقيقة أنه لا يغسله الماء فيمحه[2]..وإنما هو نور يسري في الكون..يسكن الصدور..فيزكي الإنسان ويرتقي بالروح..فكل كلمة فيه ترسم منحنيات من بؤر النور وأطيافه..
فتغذو الأنوار ألوانا من فيوض الرحمة..

فيخشع أناس ويجلون ويزداد إيمانهم اطرادا..
(إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2))[3]
وتذرف مقل آخرين الدمع وتجهش أنفسهم بالبكاء
(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ))[4]
ويتحرك آخرون لفعل الخير بوحي من الرحمن..
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73))[5].

عجب لأنه  نور.. إذا سكن القلب شع.. وأنار.. فاخترق نوره العينين لينطلق منهما إبصارا فيحدث بصائرا..وحياء فيحدث ذلا وانكسارا..!
وليمتزج بحركة اللسان فينتقي ويبدع الكلم الطيب..فيشنف المسامع روحا وريحانا.. فتؤوب الطير والجبال وجدا وهياما..
وليخالط السمع فيصبح مرهفا.. شاهدا متدبرا.. ورسولا للجوارح ..رحمة وسكينة .. ودمعا ونحيبا
وليسري في اليدين عطاء وجهادا والرجلين تهجدا وقياما ليلا ونهارا..
وهو روح..
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 52))[6]
إذا سرى  في الذات أحياها.. فانطلقت..!
 (أوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122))[7]
أجل انطلقت منيرة لنفسها وللآخرين الطريق.. تستمد أنوارها من القرآن المنير: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (21))[8]
فهل ينفتح قلبنا لتلقي النور؟؟ وهل يتمدد جسدنا لتلقي نفخة الروح؟؟
فتتبدد الظلمات المخيفة ..وتدب الحياة من جديد .. 

(الفقير إلى عفو الله: نورالدين مشاط )


[1]  ـ سورة الجن.
[2]  ـ أخرج الإمام مسلم في صحيحه:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة ( ..وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان)
[3]  ـ سورة الأنفال
[4]  ـ سورة المائدة
[5]  ـ سورة الأنبياء
[6]  ـ  سورة الشورى
[7]  ـ  سورة الأنعام
[8]  ـ سورة لقمان.

فوائد حفظ القرآن المختلفة

فوائد حفظ القرآن المختلفة
نورالدين مشاط وتورية عليوي


     
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الصادق المصدوق (عليكم بالقرآن فإنه الشفاء النافع ، والدواء المبارك ، وعصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوج فيقوّم ، ولا يزيغ فيشعب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، … إلى آخر الحديث)

كنت دوما ولا أزال، ما دام المشروع قائما في القلب ولم تنته أشغاله بعد، أحمل في قلبي شوقا إلى حفظ القرآن كتيار يجرفني ويغشيني حزنا. أرى الحفظة فأغبطهم لأنهم جمعوا القرآن في صدورهم فتلألأت له نورا كل خلاياهم وجوارحهم، فأنى يصل الشيطان إليهم وآيات الله تنبع من كل مسيمة من مسامهم. أنا إن احتجت إلى آيات القرآن بحثت عن المصحف وبدأت أقلب الصفحات بحثا عما يشفي الجرح أما هم (الحفاظ) فمصحفهم في قلوبهم تتفتح آيات البلسم الشافي صافية في أذهانهم أسرع من الضوء.

حينما أجد لنفسي فسحة أخرج قرآني لأرتل آياته. أقف أو أجلس وأبحث عن المصحف لأنهل من المعين الذي لا ينضب. أو أتأسف إن لم يكن معي وأتحسر. أما هم (الحفاظ) فلا يحتاجون للوقوف..فأينما ارتحلوا وكيفما كانت أحوالهم..حتى وأيديهم مشتغلة وعيونهم مركزة على عمل ما..فألسنتهم تلهج بالنور فتتدفق الآيات..

            أتملى ما حباه الله لحاملي القرآن وأهله من الفضائل وما أعد لهم مما تقر به العين فيزداد دمعي وأتمتم:

اللهم أعني على حفظه.. فأنت تعلم الشوق والحرقة في قلبي.. يا من إسمه الرحمن ارحمني بدخول نادي الحفاظ وزمرة أهل القرآن.. فإذا ما افتخر أهل الدنيا بانتماءات لهم، أتيت ونياشيم فوق صدري تحمل شارة القرآن. اللهم لا تحرم مؤمنا من هذا الفضل .. آمين .. آمين