مرحبا بكم

غي لاكروا: السيبرنطيقا والمجتمع: نوربرت وينر أو نكسات فكر متمرد

غي لاكروا: السيبرنطيقا والمجتمع: نوربرت وينر أو نكسات فكر متمرد

ترجمة: الدكتور م. أسليـم

  













في الكتاب الأخير لفيليب بروتون «طوباوية التواصل»(1) يقول المؤلف إننا نخضع اليوم لطوباوية جديدة، هي طوباوية التواصل التي ترتكز على الترويج لإنسان «بدون داخل» مُقلص إلى صورته داخل مجتمع صار هو نفسه «شفافا» بنعمة الاتصالات. وإذا كان التواصل قد أخذ مكانة كهذه في مجتمعاتنا فذلك ليس فقط بسبب انتشار أجهزة الاتصالات، بل لأنّ هذا التواصل، في نظر فيليب بروتون، قد تمَّ تنظيره منذ نهاية الحرب العالمية من لدن عالم الرياضيات نوربرت وينر الذي يعتبر أبا للسيبرنطيقا ومروج طوباوية الشفافية التي ألهمت ما هو أكثر اختزالا في مجتمعنا الحالي. لم تكن نواياه سيئة، بل على العكس فقد تصور مدينة فاضلة للتواصل «باعتباره سلاحا ضد عودة البربرية»، ظانا بسذاجة أن «التواصل سوف يمحو السر الذي وحده جعل من الممكن إبادات النازية الجماعية وهيروشيما ومعسكرات الاعتقال. كان لهذا الحلم السخي تأثيرات ضارة يحدد بروتون سماتها الرئيسية في الدفاع المنظم عن توافق الآراء، ومماهاة معلومة وسائل الإعلام بمعرفة الحقائق ورؤية للمستقبل تحددها التكنولوجيات الجديدة بشكل وثيق
ليس لديَّ ما أعترض عن فرضية أن مجتمعاتنا قد أنتجت مدينة فاضلة للتواصل

غربة القرآن أم غربتنا عن القرآن؟

غربة القرآن أم غربتنا عن القرآن؟
                  ذ. نورالدين مشاط
 
هل القرآن جمل ترتل وتنغم؟ أم كلام لرب العالمين .. كلام يوجهه القادر المهيمن الملك.. كلام يوجهه رب السماوات الممتدة برهبتها وعظمتها وجمالها وإتقانها .. كلام يوجهه رب الأرض في إبداعها وتناسق آياتها وتوازنها .. كلام يوجهه رب النطفة العاقلة البانية لجسد معجز في أدائه؟؟؟ كلام يوجهه لفقراء لا حول لهم ولا قوة يعيشون الضعف التام وتحدق بهم الأخطار من فوقهم ومن تحت أرجلهم .. يعيشون فوق ذرة متطايرة في فضاء الكون المهول..محفوفون برحمة رب كريم...!


القرآن كلام موصول مع كل من فتح له نوافذ قلبه وتلقاه بدفء محب يعرف مصدره ويقدره ويعظمه.. وأما من قرأه في غياب هذا الاستحضار.. فستتمدد أمامه الآيات بدون طعم ولا لون.. بدون عمق أو ومضات..فلا تحدث رعشة ولا تحرك الصدر وحجرجة الحنجرة ووديان الدموع..!
كيف نقرأ القرآن هي أصل غربتنا عنه وجوهر مشكلتنا...!
لا نتحدث هنا عن مخارج الحروف وقواعد الترتيل وطقوس الجلسة .. وإنما نتحدث عن كيفية التلقي فهي المصدر الخطير للغربة ومنبعها..
قبل سنوات.. كتب الشهيد سيد قطب رحمه الله كتابه (التصوير الفني في القرآن).. كان يلامس البلاغة في القرآن وتفاعلها مع المضامين لترسم عوالم القرآن .. كان يتحدث عن القرآن.. عن بعض من مكنوناته.. لكنه عاد وبعد سنوات من ذلك ليزيح الغطاء عن بعض من أسرار الجيل القرآني الأول ليطلعنا عن أسباب تشكيل القرآن لتلك النماذج من العمالقة طهرا وتبتلا وبذلا.. النماذج الفريدة المتفردة على طول الخط الزمني للتاريخ الإسلامي .. أجل عاد ليرسم معالم الطريق ويتكلم لنا عن منهج التلقي للقرآن.. منهج التلقي للتنفيذ..!
وتبع سيد رحمه الله آخرون يصبرون أغوار هذه الأسرار.. فكان الأخ الجليل الدكتور فريد الأنصاري الذي حول دفة مساره في الكتابات ليكرس حياته في العقد الأخير منها ليكتب عن مجالس القرآن وعن دورها في معراج الإرتقاء في سلم الرضا بين يدي الله.. وكان أيضا فتح الله كولن الذي ربط المؤمنين ممن سمعوا له بإشراقات روحية ربانية.. فبكى وبكوا غربة القرآن.. وبكيت معهم غربتنا عن القرآن..
صحبة القرآن.. والتحاور معه .. والتفاعل معه ككلام موجه في اللحظة زمانا ومكانا.. هو يسأل وأنت تجيب..وتعقب فتجد التعقيب حاضرا.. هو السر  الأول من أسرار فتح أبواب أنواره على القلب، وأما أسراره الأخرى التي لا حدود لها ولا شطآن فتأتي تباعا أمواجا على صفحات القلب تغسله من الأذران..هذا المنهج هو سمت الصالحين مع القرآن. ألم تر عمر بن الخطاب حينما سمع قول الله تعالى: "وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (*) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (*) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ" فتمم مسبحا "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (سورة المؤمنون)..فكانت جزءا من القرآن كما تلاها. كما أن الجن حينما سمعوا سورة الرحمن وطرقاتها وقرعها لأبواب القلب "فبأي آلاء ربكما تكذبان؟" فكان جوابهم: "لا بشيء من نعمك - ربنا - نكذب ، فلك الحمد" .. هكذا وردت في حديث خير البرية محمدا عليه السلام:
"وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد الرحمن بن واقد أبو مسلم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة " الرحمن " من أولها إلى آخرها ، فسكتوا فقال : " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان )، قالوا : لا بشيء من نعمك - ربنا - نكذب ، فلك الحمد ".
ومن تلك الأسرار أن تقرأه جملة واحدة من دفته الأولى إلى دفته الأخرى..فتجده مترابطا متماسكا مثل لآلئ السماء والكون المعجز..وتربطه بالأحاديث القدسية والنبوية فتعيش الفيض الرباني من رحمته ولطفه. تقرأ مثلا: "الله نور السماوات والأرض" وتربطها بنور بيوت الله " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " إلى أن يقول سبحانه "ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور" (سورة النور).. وسنرجع إلى هذا المثال في مقال قادم (أنوار القرآن) لنتتبع خيوط النور ونتلقى نسمات آيات أخرى ترسم خط القرب إلى الله عز وجل: "واسجد واقترب"(سورة العلق).. ترسم خط الارتقاء والحب باتجاه الاصطفاء والإمامة عبر الدعاء والذكر "واجعلنا للمتقين إماما" (سورة الفرقان) لنتلقى تباشير السلام "سلام قولا من رب رحيم"(سورة يس) وننحني للتتويج: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" (سورة الأنبياء)..

                                               الفقير إلى عفو الله: نورالدين مشاط