مرحبا بكم

الإطار الأعمى وقدرة الله النافذة

الإطار الأعمى وقدرة الله النافذة
                            ذ. نورالدين مشاط

استوقفتني هذه الأيام خواطر دارت في خلدي، وأنا أتجول في آيات القرآن. استوقفتني وشدهتني. كانت مثل أمواج متدفقة تتكسرالواحدة تلو الأخرى على شواطئ مخيلتي. كيف وضعنا لله إطارا نحد به قدرته ونعمي بصيرتنا عن رؤية عظمته وهي تتدفق من كل شيء وتكسر كل جدار وإطار. لقد خلق الله للكون سننا. هذا صحيح. وقال لنا في محكم وحيه: ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾، وهذا صحيح أيضا. لقد ربانا الله على الاعتماد على النفس واتباع خطى دقيقة للوصول إلى كل هدف من أهداف حياتنا، لكن المشكلة فينا هي أننا ربطنا الأسباب بما هو مادي بحث فقط، ونسينا شيئا مهما ألا وهو الارتباط بالله والثقة فيه، وهو عمق كبير يكسر جدار سنن الكون التي آمنا بها حتى النخاع فكبلتنا فنسينا أن رب العباد فوق السنن وأن قدرته لا حدود لها. ولقد عبر الله عن ذلك حين قال (وما قدروا الله حق قدره).


لم يكن إيمان يعقوب عليه السلام ليتزعزع في أن ربه لا يُخندَق في إطار، ورغم أن الحزن أكل منه ما أكل،  (فابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم﴾ إلا أنه لم ييأس من رحمة الله، فهو يعلم من الله ما لا يعلمه غيره ..  وكان يردد (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا)..
    ولقد وقف موسى عليه السلام، نفسه،  وقومه أمام البحر المتلاطم الأمواج، وكان فرعون في طلبه. فارتعدت فرائس القوم فقالوا لموسى (ص): ﴿ إنا لمدركون ﴾ فأجابهم موسى ﴿كلا إن معي ربي سيهدين﴾. هؤلاء الذين رأوا الماء يتحول دما والعصا تتحول أفعى ..و..و،  غابت عنهم الثقة في رب الأسباب والسنن. رب يقول للشيء كن فيكون..!



    ولقد نظر زكرياء عليه السلام إلى مريم الصديقة وهي تأكل مما رزقها الله، فسألها: ﴿ أنى لك هذا ﴾  فأجابت ببساطة وسلاسة تكشف عمق التواصل مع رب العالمين ﴿ هو من عند الله ﴾ ..! فكانت الشرارة التي كسرت جدران الإطار الذي بدأ يترسخ: ﴿ هنالك دعا زكرياء ربه ﴾ بنداء خفي رائع ومتذلل.. ﴿ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أك بدعائك رب شقيا ﴾  ولما استجاب له ربه ﴿ يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سميا ﴾  نرى زكرياء يعود إلى المربع الأول ليتساءل ﴿ قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغت من الكبر عتيا ﴾  وهو ما يفسر لنا تماسك جدران الإطار الخانق: ﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا﴾  فكان الجواب درسا مزلزلا وعميقا في بعده الفلسفي: أمن الأيسر يا زكرياء أن ترزق ولدا على الكبر؟ أم أن تأتي أنت كلك من عدم.. من لا شيء..؟
    لقد نعسنا لسنين حتى ران على بصائرنا وتغلغل في مخنا أن لا خلاص من الركود الذي تعرفه الأمة، ولا مجال أمام تغيير يكسر الجمود ويحرك المياه الآسنة. وكانت العاصفة تزمجر باتجاه غزة تتوعد المحاصرين مستفيدة من جدار الحديد الذي بات يخنق أهل القطاع من تحت الأرض.. جدار حديد بناه بنو الجلدة تواطؤا مع الأعداء..فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.. ومثلما قتل داوود الصغير عليه السلام جالوت الضخم بحجر لا يغني ولا يسمن من جوع، فقد حرك زلزال تونس الصغيرة فيل مصر الضخم ليقلب المعادلات وليبدأ الربيع العربي..أجل حرك ربك زلزالا صغيرا ليرج به الأرض ويزلزل الأقدام من تحت أصنام ماتت أصلا وتعفنت جثثها، لكن عبدتها لم يكتشفوا ذلك. أجل حرك ربك عبدا من عباده، مثلما حرك دابة الأرض لتأكل منساة سليمان لتكتشف الجن أنه مات منذ أمد بعيد، فحرق العبد ذاته وعربته لينطلق الحريق فيصهر معادن بشر هذه الأمة لتخرج أنفس ما فيها.
    ويبقى الإطار الخانق، إطارا يقتل الأمل فينا فنحزن ونيأس وننسى أن رب العباد يحرك الغيث كما يشاء وأين يشاء. لقد قال عمر رضي الله عنه إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، قالها لنتجنب التواكل. وهذا صحيح.. لكنني هنا أركز على شيء آخر. أركز على مربع يقتل فينا الإحساس بعظمة الله.. وبقدرته على قلب الموازين والمعادلات.. وبتكسير الوهم والخوف ومحدودية الرؤية التي تسكن الذات. إننا نحس بمعية الله، كلما تقوى إحساسنا بأنه القادر الذي لا تحد قدرته جدران.. ولا يعجزه أحد مهما طغا وتجبر..لأنه رب الكون جميعه وحينما يريد شيئا يقول له وببساطة: كن فيكون..
فإلى كل المعذبين فوق الأرض نقول ..
إن شمس الطغاة قد أفلت..
فلا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون..
وإن الله على نصركم لقدير.. 

فما علينا إلا أن نحسن الظن فيه ونمعن النظر في قدرته سبحانه لنتوجه بدعاء صادق ومن الأعماق نابع له، ونخظب ونعفر الجبين بين يديه .. فسبحانه .. سبحانه .. كيف عميت أبصارنا عن جليل عظمته..
اللهم لا تواخذنا بقصر نظرنا، ولا بالوهم الذي بلد حسنا فرسمنا لك إطارا وضعناه بيننا وبينك جدارا..
غفرانك يا رب