مرحبا بكم

الخيال والإدراك والإبداع



الخيال والإدراك والإبداع
         الخيال بحر لا حدود له، إذ هو خروج عن المربع المحدود الذي يفرضه الواقع، وهو حرية لعبور الزمن بأبعاده كلها: الحاضر والماضي والمستقبل والربط بينها. هذه القدرة على اختراق المساحات الشاسعة للصور والأحداث العديدة التي مرت في حياة الفرد والتوليف بينها لإخراجها في حلة قشيبة هي ما يجعل الدماغ البشري قادرا على التجديد والإبداع. فللخيال ارتباط بقدرات فذة للدماغ البشري لا تزال أركانها عصية على الفهم. وهي ما يجعل الخيال جانبا مظلما من النفس البشرية غير مسبور الأغوار. فما هو الخيال؟ ما علاقته بالذاكرة؟  ما أنواعه؟ وما دوره في الإبداع والتجديد؟

1. تعريف الخيال
يعرف معجم مريام ويبستار (Meriam-webster) الإنجليزي الخيال بأنه:
*       "الفعل أو القدرة على تشكيل صورة ذهنية لشيء غير حاضر أمام الحواس أو لم يكن متصورا كليا في الواقع،
*       القدرة الإبداعية"[1]
أما موسوعة ويكيبيديا فتعرفه كما يلي:
*       "الخيال هو في آن واحد القدرة الفطرية والصيرورة لإبداع حقل شخصي، بشكل جزئي أو كلي.."[2]
كما يعرفه الديوان الوطني للتكوين عن بعد .....
*        "إنه " قدرة الفكر على استحضار الصور بعد غياب الأشياء التي أحدثتها وتركيب الصور تركيبا حرا".
*        أو هو " ملكة إنشاء الصور والخيالات وتأليفها على مثال الوقائع الطبيعية التي سبقت مشاهدها أو على غير مثال سابق". "[3]

         إنه قدرة، ملكة، فعل، صيرورة لإبداع أو إنشاء صور أو تأليفها عبر تركيب حر محاك للواقع أو جديد كليا. وهو تعريف يبرز بما لا مجال للشك فيه الصعوبة التي تكتنفه باعتبار أن الخيال، كما يقول مارك تورنر (Mark Turner)، هو" لغز محوري في دراسة الكائنات البشرية. وهذا اللغز وضع علم المعرفة (La science cognitive) في امتحان.."[4]

2 ـ علاقة الخيال بالذاكرة
         يعمل الخيال والذاكرة جنبا إلى جنب في إبداع تصور ما أو رسم مشهد ذهني ما. فالذاكرة، باعتبارها خزان الصور والأحداث، تحتاج منا إلى وقفة خاصة قصد فهم دورها المحوري بالنسبة للخيال.
         لقد اعتاد عامة الناس على اعتبار التذكر هو كل استرجاع لأحوال أو حوادث ماضية. غير أن هذا الاعتقاد غير صحيح لأن الماضي قد يعود إلينا لكن على شكل حاضر و ليس على صفة الماضي. فاللغة التي نتكلمها الآن هي من معطيات الماضي ما دمنا قد تعلمناها  ونحن أطفال صغار، لكن كلامنا ليس تذكرا بل هو أقرب إلى العادة.

2 ـ1ـ حقيقة الذاكرة[5]:

أـ ليس كل ما يعود من الماضي بذاكرة.
ـ لا توجد نقطة رياضية تفصل بين الماضي والحاضر في الحياة النفسية. كل شعور هو دائم الإنسان هو الكائن ذو الأبعاد". وهذا " :Heiddeger واتصال و قد قال الفيلسوف الوجودي هيدجر معناه أن الماضي يتجلى في الشعور الفوري.
ـ هناك أفعال حركية عادية أو صور نسترجعها و ليست بذاكرة : الأولى عادات والثانية تخيل و تدرك على أنها حاضرة و نسميها الذاكرة الابتدائية.
ـ إن الذاكرة وظيفة عقلية عليا، وعلى درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لنشاط العقل و لهوية الشخصية والقدرة على التعلم و التكيف.
ب ـ ما الذي يميز فعل التذكر؟

- نحن في الذاكرة لا نعيش الماضي على انه حاضر متجدد بل على أنه ماض. وحتى تكون الصورة المسترجعة ذاكرة، يجب أن تعيها النفس على أنها صورة ماضية. وعليه يمكن القول بأن كل ما نتذكره هو بالضرورة من الماضي، و لكن بعض ما يعود إلينا من الماضي هو تذكر.

- غير أن الأحداث الماضية التي لم يسبق لنا أن عشناها، لا يمكن أن تتذكرها النفس البشرية، وإنما تتخيلها بناء على شذرات من هنا أو هناك. و قد تمر بنا أحداث و صور لا حصر لها ، إلا أننا لا نتذكر إلا البعض منها. و لذلك حتى تستعاد الذكرى، وجب أن تمر بمراحل أو قل إن شئت شروط هي: التثبيت، الحفظ، الإسترجاع ، العرفان و التحديد.

3 ـ  أنواع الخيال:

o      التخيل التمثيلي: استحضار صورة شيء حصل في تجربة إدراكية سابقة. إنه ذاكرة بلا عرفان
أو رجوع الصور النفسية إلى ساحة الشعور لأن الصورة هي بقاء الإحساس في النفس بعد غياب
المؤثر. (مثل تمثل صورة صديق)

o       التخيل الإبداعي: تصور الشيء أو الحادثة أو العلاقة على غير مثال سابق. إنه جمع الصور
الماضية بعضها إلى بعضها وتأليف نماذج جديدية، و هو يعتمد على المقارنة بين الأجزاء والكشف عن
العلاقات بينها وتأليف صور جديدة، لأن ما هو جديد ومبدع هو تركيب الصور.(تمثل صورة الصديق
بجناحين). إن هذا النوع من التخيل نوعان كذلك:
*    هناك تخيلات عادية كأحلام اليقظة. وهي تخيلات متواضعة تحتاجها النفس الإنسانية للتعويض أو لرسم خطوط المستقبل.
*     وهناك تخيل الأدباء و العلماء و الفنانين...فهذه تخيلات تأملية راقية، و هذا النوع يسمى بالتخيل الإبداعي الراقي أو العالي، وهو ما يسمى بالإبداع. وهكذا فإن الإبداع هو القدرة على إيجاد حلول جديدة لمشكلات مطروحة سواء باختراع أشياء أو اكتشاف علاقات جديدة غير معروفة سابقا. إذن فالإبداع كذلك نوعان وهما:
*       الاكتشاف (Découverte): وهو الاطلاع على شيء لم يكن معروفا لكنه كان موجودا مثل اكتشاف العالم للقانون العلمي.
*        الاختراع (Invention): وهو إيجاد شيء لم يكن موجودا مثل اختراع الحاسوب.
*        العلاقة بين الاختراع و الاكتشاف: بالرغم من الاختلاف الموجود بين الاختراع و الاكتشاف، إلا أن هذا لا ينفي وجود علاقة بينهما، فالاكتشاف العلمي مثلا يعتمد على أدوات و أجهزة تم اختراعها سابقا، كما أن اختراع الآلة يعتمد على قوانين تم اكتشافها من قبل[6]. و لذالك فقد قيل أن "كل اكتشاف هو اختراع و كل اختراع هو اكتشاف".

o       التخيل المرضي: قد يصطدم الإنسان بواقع مرير، ويطلق العنان لخياله فيذوب الخيط الرفيع بين الواقع المحيط بالإنسان وبين هذه الطاقة المهولة اللامحدودة في خلايا عقله، فيختلط الواقع بالخيال، ثم إذا بالعقل ذاته يمرض ويذوب، وحينها لا يصح نعت الإنسان سوى بالجنون ! وهو ما حاول تصويره ويليام شكسبير في تراجيديا "الملك لير" بروعة كبيرة حينما وصف الملك لير نفسه بأنه كان في قبر وسُرَّ للخروج منه لرؤية ضوء النهار بعد غياب طويل. لقد أغلق على نفسه ليعيش عالم العقوق (ingratitude) وليصبغ على كل الناس مصيبته، أجل أغلق على نفسه في ظلمة قبر الدماغ ورسم مأساته بفرشاة الخيال على كل ما حوله..!

o       التخيل وأحلام النوم: قد يغالب الإنسان النعاس وينام جسده، ولكن الخيال قط لم ينم، إذ يشرع في نسج الأحلام لتعبر عما تبتغيه مكنونات النفوس (اللاشعور) فيما لم يستطع أن يحوله إلى واقع بعد، فإذا بتلك الطاقة تتفاعل، فتبينه في المنام واقعا كامل التفاصيل داخل (عالم افتراضي) يعيش فيه الإنسان بعضا من ساعات نومه. وقد تعمل هذه الأحلام على إعادة التوازن للنفس لرسم سعادة لحظية على محيا البؤساء، كما هو الشأن بالنسبة لـ "بائعة الكبريت".


4 ـ الخيال والقوة الإبداعية:

         إن إنشاء تصور ما (conception) لشيء ما يفترض بسط خريطة متخيلة للشيء وكيفية اشتغاله لكن على أساس صور حقيقية مخزنة في الذاكرة مع ربطها فيما بينها بشبكة علاقات جديدة وإضافة متغيرات من حيث الشكل أو من حيث الوظيفة تكسبها حلة جديدة وقدرات أخرى مغايرة لما كانت عليه. ولكي تكون الصورة واضحة لهذا، يحضرني هنا نص أنشأته في التعبير:

في منزل العم إدريس:

زار فؤاد وأسرته منزل العم إدريس في قرية مجاورة.
قالت الأم: يا له من منزل جميل قرب البحيرة!
أخذ العم إدريس الأطفال في جولة.
مرت دجاجة مسرعة تترنح يمينا وشمالا
سأل فؤاد عمه: هل تنام الدجاجة في الإصطبل يا عمي؟
رد العم ضاحكا: لا يا حسام، بل تنام في الخم....
       
لقد كانت هناك صورة في الذاكرة لمنزل على ربوة، لم يكن سوى منزل جدي، لكني أحضرت بحيرة صافية تبعد عنه بما يزيد عن المئتي كيلومتر وسط الغابات لأضيفها إلى المشهد ولتنعكس صورة البيت على صفحة الماء. ولكي أضفي على المشهد المزيد من الحيوية أضفت الدجاجة وهي تترنح وكان بإمكاني إضافة كتاكيتها للمشهد..! كانت هناك كاميرا داخلية ترسم المشاهد في الظلمات وتربط بينها وتحرك الشخصيات وتضفي عليها المؤثرات. كانت تلك الكاميرا الإبداعية هي الخيال. وكان ذلك الخيال مبني على تذكر.
إن ما قمت به لم يكن سوى تجسيدا لما بات يعرف اليوم بنظرية الإدماج التصوري (l’intégration conceptuelle) لمارك تورنر، فلقد أبدعت من حقول متباعدة حقلا جديدا بكل ما في الكلمة من معنى..!
         إن الكل، وعلى نحو ما، يستخدم خياله، فالمتعلم يرص جملة طلبها منه أستاذه، يرصها في مخيلته ويقرؤها في نفسه قبل أن يكتبها أو ينطق بها. والأم ترص شكل طبق السلاطة في مخيلتها وتراه واقعا قبل أن تشرع في تهيئته. والمهندس يتخيل المنزل أو العمارة قبل أن يرسمها بالبرامج الكمبيوترية الثلاثية الأبعاد أو على الورق. إننا قبل الشروع في أي عمل إبداعي: رسم، كتابة، طبخ أو بناء، فإننا نتخيله ونضيف عليه أو ننقص منه حتى إذا ما رضينا عنه، قذفنا به إلى العالم المحسوس عالم الواقع. فبالخيال صنع الإنسان سيارة، وطائرة، وقاطرة، وسفينة، وقذيفة ذكية تعبر المسافات والوديان لإنهاء أحلام أناس آخرين وبالخيال بنى أصغر الأشياء وأكبرها.
والأدباء والعلماء يستخدمون خيالهم. فمن منا لم يقرأ أو يسمع عن "أطلنطس العجيبة" لفرنسيس بيكون (Francis Bacon) أو "جولة حول العالم في ثمانين يوما" و"باريس في القرن العشرين" لجول فيرن (Jules Verne)، أو يقرأ عن" 1984" لجورج أورويل (George Orwell) أو "مغامرة على كوكب الزهرة" لراجي عنايات.. كتب وروايات عديدة صممت تحت نوع راق من الأدب يسمى "الخيال العلمي"، يسبر أغوار ما سيأتي أي المستقبل بناء على نظريات مقبولة أو ممكنة وانطلاقا من إرهاصات الحاضر ولكن بمسحة كبيرة من الخيال. وتمر الأيام وتصدق الوقائع كثيرا مما كان إلى عهد قريب مدرجا في الخيال ليصبح واقعا..!
5 ـ الخيال والتربية:
         لقد سقنا أهمية الخيال بالنسبة للإبداع وبينا بعضا مما بينهما من ارتباط ، كما أشرنا إلى الحاجة العلمية الماسة لسبر أغوار الخيال وعوالمه الساحرة وتأثيراته ودراسته من أجل توظيفه توظيفا واعيا وتدريب الناشئة عليه لتخريج المبدعين من المخترعين والمطورين، أو لمواجهة المشاكل الحياتية بكفاءة عالية قادرة على تصور وتخيل الحلول. إذ ما معنى الفرضيات في المنهج التجريبي إن لم تكن الحلول الممكنة المتخيلة؟ّ!
         والمتعلم اليوم، أحوج ما يكون إلى التدرب على استخدام مخيلته، في إطار تنمية كفاياته المنهجية والتكنولوجية (منهجية التفكير، والقدرة على الإبداع والإنتاج، وتطوير المنتجات)[7] من خلال تعلماته كتداريب التعبير الشفهي والتعبير الكتابي المعتمد على حكي أجزاء من القصة ليتممها المتعلمون مع ذكر بعض الأشياء والألوان في المشهد وترك أخرى ليتممها كل طفل حسب ما يريد. أو من خلال وضعيات مشكلة تتطلب استخدام مهارات تخيل الحلول ـ الفرضيات لتجاوز عوائقها[8]. وكذا من خلال الأنشطة الموازية كالمسرح حيث يتقمص شخصية أخرى متخيلا نفسه في عالم وزمن آخر، أو ليكن من خلال إبداع رسوم لأشياء غريبة.
         إن مما يحبه الأطفال أثناء لعبهم هو خلق عوالم خاصة بهم، يتقمصون فيها أدوار الكبار أو  يصبغون من خلالها الحياة على الجمادات ويتكلمون عوضا عنها. فاللعب كنشاط يمارسه الأطفال دون ضغوط من البيئة أو الوسط يضفي عليهم البهجة ويعطيهم إحساسا بالحرية والإرادة. ويرتبط بثقافتهم (الوسط) وبالخيال والرموز واللغة والبيئة، ولذلك يكتسي أهمية بالغة في بناء شخصيتهم. ومن هنا يأتي توظيفه بيداغوجياً[9] للتعلم. يقول إيزنبورك (Isenborg): " عندما يوظف الأطفال مخيلتهم في اللعب، فإنهم يكونون أكثر إبداعا ويؤدون واجباتهم المدرسية بكفاءة ويطورون مقاربة حل المشكل في تعلمهم "[10]
خاتمـــــة
         يعتبر الخيال قدرة فذة زودت بها النفس البشرية لتجاوز الصعوبات والتأقلم مع مشاكل الحياة وإبداع الجديد. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى عمق التفكير في آلياته قصد تدبير أفضل للاستفادة منه وتوظيفه التوظيف الأمثل.


[1] - http://www.merriam-webster.com/dictionary/imagination
[2] - http://en.wikipedia.org/wiki/Imagination
[3] - http://www.onefd.edu.dz/3ass/cours/nouveau_prog/lettres-philo/PHILOSOPHIE/ev1/ev1_philo004.pdf
[4] - http://markturner.org/cdf/cdf1.html
[5] ـ قمنا باعتماد المادة التي وردت بالموقع الموالي بتصرف:
http://www.onefd.edu.dz/3ass/cours/nouveau_prog/lettres-philo/PHILOSOPHIE/ev1/ev1_philo004.pdf

[6] - http://www.onefd.edu.dz/3ass/cours/nouveau_prog/lettres-philo/PHILOSOPHIE/ev1/ev1_philo004.pdf
[7]  ـ وزارة التربية الوطنية، الدليل البيداغوجي، ص 28,
[8] ـ يمكن الاستفادة من بعض النماذج، مع مواءمتها لواقع التعلم، قدمها موقع:
http://www.successconsciousness.com/imagination_innervision.htm
[9] ـ الدليل البيداغوجي، ص 36

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire